19 مايو رسالة مسيحيي المشرق العربي إلى قداسة البابا
من المدرج العماني الكبير الذي ربما يكون قد شهد رمي المسيحيين الأوائل إلى الأسود الجائعة بحكم الوالي الروماني، إلى بيت لحم، المدينة التي شهدت ولادة سيد المسيحية طفلا مضطهدا من قبل قوى الشر الحاكمة: يهودا ومستعمرين أوروبيين رومان، كما شهدت هرب أهله به لاجئين إلى مصر. كما أحفاد الفلسطينيين اليوم وليس كما مصر!! مرورا بالمدينة التي أعطته اسمها كنية –الناصري- ومن ثم لجميع أتباعه على مدى ألفي سنة. كنت أتابع زيارتك يا سيدي الحبر الأعظم. أيها القادم على طريق عودة لأرض لم تخرج منها، لكنها عودة على طريق سلفك الفلسطيني، الرسول التلميذ الذي خرج من فلسطين حاملا رسالة سيده، دعوة إلهية – إنسانية استشهد لأجلها ولكن بعد أن عممها على الغرب الوثني، وجعل في روما كرسيها التي آلت إليك.
جذور المسيحية مشرقية
كنت أنا المسيحية أتوقع أن تقول ذلك يا سيدي. أن تقول إنك تمشي على خطى بطرس الرسول، أو – وذلك هو الأحرى– على خطى معلمه سيدنا يسوع المسيح. أما إذا أردت العودة إلى ما هو أعمق، ومن وحي الأردن، فقد توقعتك أن تبدأ بالمغطس حيث خطى يوحنا المعمدان، وحيث المياه التي تعمد بها الناصري على يد هذا النبي الذي يطلق عليه في بلادنا أيضا اسم يحي.. ليصبح العماد، منذئذ، المدخل الإلزامي الوحيد للإنسان كي يكون مسيحيا.
هو السر المسيحي الأكثر قداسة، وبالتالي هو الموقع المسيحي الأكثر رمزية ودلالة على أرض الأردن الحالي. فما هي الرمزية التي أردتها أيها الأمين على الأناجيل من موقع النبوة؟
رمزية توراتية- تقول- ولكنها التوراة اليهودية محرمة على المسيحيين حتى القرن السادس عشر، وما زال الأصلاء منهم حتى الآن، في الغرب وفي الشرق لا يعترفون إلا بمرجعية الإنجيل. ويرفضون الانجرار في عملية تهويد المسيحية الغربية التي تحولت إلى يهو- مسيحية.( ألا تذكر أن الأب بيار القديس الخيّر قد طلب قبل عامين بألا يوضع على تابوته إلا العهد الجديد فحسب؟)
لا نريدها نحن الشرقيون العرب تلك المسيحية الجديدة، ولا نريد أيضا أن يوظف النفوذ الروحي للكنائس الغربية، من كاثوليكية وبروتستانتية لتسويقها لدى مسيحيي الشرق وخاصة العربي.
أنا مسيحية عربية يا سيدي! ولست من أتباع الكنيسة الشرقية كما يتبادر لقداستكم، بل من أتباع الكنيسة المارونية التي جاء رأسها إلى الأردن للقائكم. بل إنني حفيدة البطريرك الحويك الذي كان آخر بطاركة الموارنة الذين يرفضون بإصرار التبعية لروما ولبيزنطة. وفاء لإرث مؤسسهم الراهب البدوي الحمصي، الذي تمرد على الاثنين لوعيه العميق بأن جذور المسيحية هنا على هذه الأرض، وأصل المسيحية هنا، والمسيح نفسه من هنا، فلمَ نتبع لسلطة دينية خارجية؟
لذلك فإنني كعربية أولا، أنحني لك احتراما واسمح لنفسي بأن أذكر بأن حظنا على هذه الأرض أن نكون مهبط الأديان السماوية، لا نأخذها عن أحد، ولا تشكل لنا أية قطيعة مع تاريخنا وتراثنا، حتى ولو شكلت ثورة. لأن الثورة تعديل وإصلاح لا تنكر.
مسيحيو المشرق العربي ليسوا أقلية
وبناء على هذا الواقع التاريخي الذي لم نختره بل اختارته لنا السماء، نتلقى دعوتكم الكريمة إلى الحفاظ على التعددية بتوضيحين:
– الأول أن التعددية يا صاحب القداسة، لم تأت إلينا نتيجة هجرة أو استعمار، بل إنها وزعت الإخوة في بلادنا على الإيمان، كل بالطريقة التي اختارها. طالما أن الإسلام والمسيحية قاما على الإكراه، في أول تجل إنساني حقيقي لحقوق الإنسان وحرية المعتقد.
– والثاني أن الغرب الذي تعرفون، ومعه وليده الصهيوني العنصري، هم الذين يستهدفون-ومنذ عقود- هذه التعددية، بتخطيط إستراتيجي دقيق ومبرمج يهدف إلى تهجير مسيحيي العالم العربي، لينزعوا عنه صفته التعددية. من فلسطين إلى مصر إلى السودان إلى العراق ( أي فصل مرير وفاضح هو العراق! ماذا فعلتم لأجل بقاء مسيحييه على أرضهم؟)
وعليه، فإننا يا صاحب القداسة – كعرب مسيحيين – لسنا بأي حال أقلية، لأننا العرب قبل الإسلام وبعده، ولا نحتاج إلى حماية إلا حمايتنا من مخططات اقتلاعنا من أرضنا ورمينا على أرصفة الغرب مادة ضغط وابتزاز ضد بلداننا. وفي أحسن الأحوال مهاجرين لا انتماء لهم ولا قضايا.
أعرف، جيدا أن ما أقوله ليس واضحا لجميع المسيحيين: فمائة سنة من الكلام عن الأقليات، ومائة سنة من تضافر الجهل المسيحي مع الجهل الإسلامي، واستهداف الطرفين لشحن كل منهما ضد الآخر، في جو يغيب عنه مفهوم حقوق المواطن لتحل محله حقوق الجماعات على اختلافها، ويسود فيه نمط الاستقواء بالأجنبي على أي أساس مفتعل كان، هي فترة كافية لزرع الحذر والتعصب لدى الجهلة، حتى ولو ادعوا العلم.
بهذا المعنى التعددي الذي ذكرت، وبه فقط نفهم توصيفكم للمسيحية بأنها: “رسالة تهدف إلى محو روح التعصب” دون أن يكون هذا المعنى، بأي حال مدخلا لجعلنا نقبل من يحتل أرضنا ويدعو إلى إبادتنا بحجة قبول الآخر.
اضطهاد اليهود قضية أوروبية وليست عربية
نحن نفهم تفسير روح المسيحية بأنها: “التضامن مع الفقراء والمهجرين وضحايا الماسي الإنسانية الكبرى”، دون أن يكون ذلك مدخلا لجعلنا مسؤولين عما تعنونه أنتم أوروبيين –وخاصة قداستكم كألماني– بالمأساة الكبرى. ولنسم الأشياء بأسمائها: مأساة اليهود على يد النازي. لن نناقشها، ليس فقط لأن المجال لا يتسع، ولكن لأنها قضيتكم في أوروبا. فالعرب لم يضطهدوا اليهود يوما، وهم لم يعيشوا يوما في ديارنا ضمن غيتوهات، بل كمواطنين عاديين. الغيتو اليهودي الأول على أرضنا هو ذلك الذي أنشأته الصهيونية وسمته دولة إسرائيل. وإذا كنتم، يا صاحب القداسة، تصلي –كما قلت: “كي لا تشهد الإنسانية جريمة مماثلة” فاسمح لي يا رأس الكنيسة أن أذكرك بأن جريمة أشد قسوة تدور على أرض فلسطين، ولا يمكن لرائحة دمائها إلا أن تكون قد وصلتك من فلسطين، حيث آخر الحلقات، هولوكوست غزة لم يجف بعد، أو من لبنان قبل ثلاثة أعوام. وحيث أول من يستقبل قداستكم على أرض فلسطين هو جزار قانا، ويليه رئيس وزرائه ووزير خارجيته الأكثر عنصرية وتعصبا في العصر الحديث.
لذا فإن الحوار بين المسيحية واليهودية الذي دعوتم إليه وطلبتم أن “يستمر يستمر في روح الأنبياء” هو حوار مستحيل على هذه الأرض، لأننا نفهمه في روح المسيح لا في روح يوشع. ألا ترون يا صاحب القداسة أنهما روحان نقيضان كما لا نقيض، الغفران والإبادة؟
لكننا نعرف كمسيحيين يا سيدي أن المسيح نفسه لم يغفر إلا للذين “لا يدرون ما ذا يفعلون”، أما الآخرون فقد طردهم بالسوط من الهيكل: “اخرجوا من بيت أبي يا فاعلي الإثم”. صراع لأجل الحق ولأجل الإنسان لم يتهاون فيه السيد حتى النهاية، حتى السلامة والشهادة.
كل هذا هو ما نفهمه نحن ب: “الوفاء للجذور المسيحية” الذي أوصيتنا به في الخطبة الرسولية، وكذلك بـ “الوفاء لرسالة المسيحية في الأرض المقدسة.”
قطاع غزة كان أولى بزيارة البابا
كل هذا يجعلنا نسأل قداستكم: لماذا لم تزوروا قطاع غزة المنكوب بالموت والفقر والظلم والاضطهاد، أو ليس المبتلون بكل هذا في جوهر رسالة السيد المسيح؟ أو لم يكن إليهم يذهب ومن أجلهم يبشر ويناضل؟ هو الذي لم يقل يوما إنه جاء ليخلص المسيحيين بل بني البشر الذين نظر إليهم سواسية وخاطبهم كلهم ب “يا إخوتي”، ولم يقل يوما إن بينهم من ميزه الله تمييزا عنصريا يقسم الناس إلى أبناء الله وأبناء الإنسان.إلى يهود وعجماوات.
لماذا يا صاحب القداسة يأتي توقيت زيارتكم والقضاء الإسباني يتهيأ لمحاكمة مسؤولي المجزرة في غزة كمجرمي حرب؟ لقد منحتموهم صك البراءة من دم المسيح، بحجة مرور الزمن وعدم مسؤولية الأحفاد عن جريمة الأجداد: هنا يا سيدي لم يمر الزمن بعد، والمسؤولون عن الجريمة أمامك تصافحهم، فلما ذا تمنحهم صك البراءة من دم أهل غزة؟
وهؤلاء المسيحيون الذين يتهيؤون لاستقبالكم كرعايا في فلسطين: هل أبلغوكم بأن قريتين مسيحيتين هما أقرت وكفر برعم قد أزيلتا من الوجود عام 1948 ورغم أن المحكمة العليا الإسرائيلية، أعلى هيئة قضائية في الدولة العبرية أصدرت قرارا عام 1950 بإعادة سكانهما المهجرين في وطنهم، فإن هذا القرار ظل حبرا على ورق؟ هل أبلغوكم بأن واحدهم لا يستطيع الحج من الناصرة إلى بيت لحم، والعكس؟ هل قدموا لقداستكم بيانات عن نسبة هجرة الفلسطينيين المسيحيين من الأراضي المقدسة في خطة مبرمجة لإفراغها منهم؟ هل تجرأ أحدهم وقدم لقداستكم وثيقة عن العنصرية المكرسة في القوانين الإسرائيلية ضد غير اليهود على اختلاف أديانهم بما فيهم المسيحيون، ربما ليكذبوا ادعاءات شيمون بيريز حول التسامح والتعددية. وربما ليسألوا ببساطة: ماذا لو أن دولة أوروبية اعتمدت القوانين نفسها بحق اليهود؟
مسيحيو المشرق العربي مؤمنون وليسوا أتباعا
نطرح السؤال لدحض الادعاءات ولكننا لا نجهل عدم توفر أرضية المقارنة، حيث إن الدولة الأوروبية هي دولة مواطنيها الذين ليس بينهم من جاءت هي واحتلت أرضه وحكمته بالقوة.
وفي النهاية هل قال لكم أحدهم يا صاحب القداسة بأن لا ضير عليكم من السير في سيارة مكشوفة في شوارع الناصرة، فالعرب المسلمون ليسوا إرهابيين ولا مجرمين، ولن يتعرض أحدهم لحياتك. وما تصوير الأمر بهذه الخطورة إلا كمثل تسويق ما جاء في محاضرة لقداستك ضد دينهم، وذلك ما اتضح بعده أنه اقتباس تراجعت عنه. إنهما تسويقان يصبان في نفس المخطط الصهيوني الأميركي المدمر (ومن يسير في ركبه) لتفعيل صراع حضارات لا ينفذ من خلاله إلا واضعوه.
أخيرا اسمح لي أن أخاطبك كامرأة عربية، تكرمت بالتوجه إلى اعتبار أن المرأة تتميز بروح “المحبة والسلام” لأقول إنني كعربية مسيحية أجد نموذجي في السيدة العذراء التي إن جسدت، فهي أول ما تجسد الأم الحنون، المربية الفاضلة، التي واكبت ابنها في كل مسيرته و لم تمنعه يوما من مواصلة رسالته حتى الشهادة فداءا لمبادئه. إنها الروح التي تحرك أمهات فلسطين، اللواتي يحلمن ككل البشر بحياة هانئة هادئة مريحة لأبنائهن، ولكنهن يعرفن بالفطرة وتلقائية الحياة أنها مستحيلة في ظل احتلال وذل ومصادرة حقوق. إنها ذات الروح التي جعلتكم في الغرب ترفعون جان دارك المقاتلة الشهيدة إلى رتبة القداسة.
بحق العذراء والمسيح افهمونا قليلا يا سيدي، وتوقفوا عن التعامل معنا كأتباع، عاملونا كمؤمنين مساوين في المسيح واتركوا لنا أن نعلم إخوتنا أن يكونوا كذلك.
(الجزيرة – حياة الحويك عطية, باحثة وإعلامية لبنانية)
Sorry, the comment form is closed at this time.