14 أكتوبر تعقيباً على مقال خالد الجابر ..د. الصادق الفقيه: حوار الأديان.. صواب هوحتى مطلع الفجر
نشرت جريدة “الشرق” الغراء، في عددها رقم 7783، الصادر بتاريخ يوم الأربعاء 18 شوال 1430هـ، الموافق7 أكتوبر 2009، في الجزء الثاني، على صدر صفحة محليات السابعة، وفي باب “موزايك” مقالاً بعنوان: “حوار الأديان فشل في محاصرة حدة التوتر وفهم الآخر”. ومع هذا القطع الحاد بالفشل، قال الأخ الكاتب خالد الجابر إن تأثيرات مؤتمر حوار الأديان تجسدت “في الجانب البروتوكولي والاحتفالي دون تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع اليومي المعاش”، وقدم دعوة لـ”المسؤولين بمؤتمر الدوحة لحوار الأديان لطرح مبادرات ومشاريع وتوسيع نطاق المشاركين”. وهذه دعوة حق تُذكر بما هو مرصود لأصل الفكرة، التي قام عليها مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، ولا تنفي أن المبادرات والمشاريع وتنويع وتوسيع نطاق المشاركين هي الوسيلة المبررة للغاية.
ورغم ظاهر التقييم، الذي يبدو قاسياً؛ إذا اكتفى القارئ بالإطلالة على مقدمة المقال، فإن ما حفلت به تفاصيل السرد الغنية بالمعلومات، وحشد المراجعة التاريخية لأنشطة الحوار بين الأديان، التي تخللها دفق من الأفكار الحافزة على مزيد من هذا الحوار، يصل بنا إلى حقيقة مؤداها أن الأستاذ الجابر، مؤمن بما مضى وما سيأتي من لقاءات الحوار بين الأديان، ولكن يريد أن يطمئن قلبه إلى أن الجهد، الذي يبذل الآن وغدا، يجب أن يبين طلعه بمبادرات، وتينع ثمرته بمشاريع، ويؤتي أوكله في كل حين بتوسيع قاعدة المشاركة فيه، وفيما ما يعتقده من ضرورة “محاصرة حدة التوتر، والتخفيف من وضع الاحتقان، وإفساح المجال لفهم الآخر”، وغيرها من مطلوبات الواقع المعاش، أي ضرورة رؤية الواقع كما هو، وليس الواقع الافتراضي الذي يحلم به المتحاورون.
والمعروف أن مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، الذي أشّر عليه اتهام الأخ الجابر وتوجه إليه نداؤه، قد نشأ، كما تقول ديباجته، كثمرة لتوصيات مؤتمر الدوحة الخامس لحوار الأديان، الذي عقد في الدوحة شهر مايو2007، وتم افتتاحه رسمياً في 14 مايو2008. ويمثل نشر ثقافة الحوار وقبول الآخر والتعايش السلمي، وتسخير فهم أفضل للمبادئ والتعاليم الدينية لخدمة الإنسانية، الدور الرئيسي للمركز. وذلك بالتعاون مع الأفراد والمؤسسات ذات الصلة، وأن يكون مرجعية عالمية في مجال حوار الأديان، دون أن يغفل الباحثين والأكاديميين والمهتمين بالعلاقة بين القيم الدينية والقضايا الحياتية. ويعمل على توسيع مضمون الحوار ليشمل كل القضايا المتفاعلة مع الدين، ويكون بيت خبرة يوفر معلومات علمية وتعليمية وتدريبية في مجاله.
وسبيله إلى ذلك، وكما هو موصوف في أدبياته، المؤتمرات، والندوات، والورش، والاجتماعات المتخصصة، التي تعقد لمناقشة موضوعات ذات خصوصية مشتركة بين أتباع الأديان المختلفة، حيث يدعى إليها متخصصون وعلماء دين وباحثون لإثرائها بالبحث والنقاش، ويتم نشر نتائج هذه المناقشات في كتيبات يصدرها المركز بصورة دورية، تعميما للفائدة. وحتى لا يكون نتاج جهده حبيسا للقاعات وغرف الفنادق المغلقة يصدر المؤتمر مجلة علمية دورية، باللغتين العربية والإنجليزية، ورغم أنها ذات طابع علمي منهجي، وتتضمن العديد من البحوث المحكّمة، إلا أنها تناقش مختلف القضايا الفكرية والإنسانية والحوارية بين الأديان، التي تصلح لأن يطلع عليها الخاصة والعامة من الناس.
ولا يخالج أي متابع شك في أن الانتقال بفكرة الحوار بين الأديان إلى الواقع العربي والإسلامي، الذي ابتدرته دولة قطر، قبل سنوات خلت، ما أريد به إلا هذه الملامسة المباشرة مع الواقع المحلي والإقليمي، ومن ثم، حمل تأثيراته إلى المجال العالمي؛ إدراكاً شفيفاً لقصد التقارب الإنساني، الذي تتعزز به فرص التفاهم والاستقرار، والذي يمكِّن لشروط النهوض الجماعي أن تفعل فعلها الحميد في سلام وإسعاد الجميع؛ بمختلف أديانهم وثقافاتهم وحضارتهم وحواضرهم. ولا ظن عندي في أن المثل الشعبي “حط بينك وبين النار عالم وأطلع منها سالم”، كان حاضراً في أي ذهن أدركت فطنته وسلامة قريحته رجاحة الأهداف الكلية، والمقاصد الجمعية لحوار الأديان، حتى ولوكان هذا الحوار بين نخب تتناجى بقصيد الوجد في غرف الفنادق المغلقة.
فقصد التعارف والتفاهم معلق بهذه اللقاءات، التي تهدف أول ما تهدف إلى الاعتراف بالاختلاف، وترسيخ مبدأ الاحترام، الذي يمكن من اكتشاف مساحة المشترك مع الآخر المختلف، وليس إيجاد التطابق وخلق الإتحاد. وفي كتاب الأب كريستيان فان نسبن “مسيحيون ومسلمون.. إخوة أمام الله”، الذي يسجل الخبرة العملية في حوار الأديان، ويحكي تجربة عميقة للآثار الإيجابية للحوار، ويقول اعترافاً كيف أنه خرج بجسده وعقله من شرنقة الذات، ومع الزمن أدرك “كم يمثل الاتصال الشخصي والصداقة الحقيقية والمخلصة باباً واسعاً لاكتشاف دين آخر، وبدون هذا تظل المعرفة النظرية مهما كانت كبيرة تنطوي على خلل، فالدين بالفعل هو واقع يشكله الأشخاص المتدينون قبل أن يكون نظاما دينيا”.
ويقيني أن مركز الدوحة يؤمن بأن تناول الحوار، خاصة في جانب الأديان، يفرض مجالا وحيزا هاما من التأني، حتى يتسنى للمتحاورين أن يرسموا لمسار أفكارهم خطى تمكنها من استحضار مختلف المداخل والاتجاهات الممكِنة والممكِّنة لمستوى بناء أطروحة سليمة في علاقة الحوار مع المقوم المنهجي داخل الحقل المعرفي لكل دين؛ لتحقيق البعد الاستراتيجي في الحوار وعلاقة الأديان بعضها ببعض. من هذا المنطلق، فإن إثارة موضوع حوار الأديان بخصوصياته المتشعبة افتراضا، بل يقينا، يطرح تحديات جمة، مثلما يتيح فرصاً لا حدود لها. وبذلك يستدعي استراتيجيات قصد الاحتكام للقيم المشتركة والتعارف والتفاهم والتعاون إليه من جهة، والاشتغال عليه بتنظيم اللقاءات وعقد الندوات والمؤتمرات من جهة ثانية. إذ أن الحديث حول حقل الأديان الواسع والرحب، يولد بالضرورة تساؤلات كبيرة، ويطرح إشكاليات تتجه إلى استفسار الواقع، نظراً لعدة اعتبارات منهجية ومفاهيمية؛ وبالتأكيد أخلاقية، وموضوعية، كتلك التي أشار إليها مقال الأخ الجابر.
فالقراءة المعرفية في فلسفة حوار الأديان تطل بنا على مشارف حقيقة الواقع الإنساني المعاش، وتنقلنا بعقلانية التدرج الحكيم من خطر التدمير الذاتي، الذي نتعمده بالقطيعة والكراهية، التي أصبحت أكثر فاعلية وقدرة في مجالات الشر؛ من خلال امتلاكنا لأسلحة الإبادة الشاملة، والتي باتت تهدد المصير الإنساني على هذه الأرض، إلى ضرورة التعارف الراشد، والوعي العميق بهذه الأزمة الوجودية، والذي ينبغي أن نتقصده باستنارة التسامح؛ المحصن بإيجابية معرفة “الآخر”. وقد أثبتت تجربة حوار الأديان التاريخية، التي عرض الأخ الجابر لجزء مهم منها، أن التعاطي بين المتحاورين قد برهن على إمكانية تحريك عدد كبير من قضايا الخلاف الساكنة، وأوجد حولها فهماً، إن لم نقل اتفاقا، يمكِّن من اللقاء والتعاون والتضامن، مع وجودها.
ومنطلق حوار الأديان هنا يتسق مع منطق قصد الحكمة، ووجوب السعي إليها أينما كانت، لأنها ضالة المؤمن. لهذا، فإن المناداة به في المجال الدولي، وتفعيله على النطاق الإقليمي، وتوطينه على مستوى الدولة، وتعزيزه بين أطياف وشرائح المجتمع المتحد، وترسيخه بين مذاهب وطوائف الدين الواحد، يمثل فكرة عقلانية، وركيزة موضوعية، وسياسة إستراتيجية، في ظل واقع مختلف وعالم مضطرب. ومن هنا، فإن مؤتمرات حوار الأديان الستة الماضية، والسابع، الذي يلتئم في الدوحة هذا الشهر، وكل تلك التي ستشهدها السنوات القادمة، هي ضرورية لدولة قطر، وللمنطقة العربية، وللعالم الإسلامي، كما هي ضرورية للعالم بأسره. ومثلما يعبر حوار الأديان عن حاجة أخلاقية تتولد من الإحساس بالذات والآخر، فإنه يعد انعكاساً للظروف التاريخية التي نعيش فيها بسكونها واضطرابها، وبكل ما يعتمل داخلها من صنوف التعاون، وكل ما يعتورها من أدواء الصراع وفظائع الاحتراب.
وحوار الأديان المطلوب، كما ندعوإليه وينادي به الأخ الجابر، يجب أن يقوم على فلسفة تستوعب ملامح وأطر الواقع المعاش، وما يقتضي ذلك من مبادرات، ومشروعات، وتوسيع قنوات المشاركة، ضماناً للنتائج والمخرجات، بحيث تجعل للقاء المتحاورين قيمة عملية تحفزهم على بذل مزيد من الجهد لتحقيق كل الشروط والحوار، الذي يهدف إلى احترام الاختلاف. وذلك بمعرفة سياقه وفهمه وتحليله، وإدراك وضع الذات، وفهم وضع الآخر لمواجهة التحديات المشتركة، وضرورة أن يبني الجميع مجتمعا إنسانيا للأسرة الإنسانية؛ يعيش فيه كل فرد حياة كريمة وحرة، في إطار من المساواة والعلاقات الحقيقية، والقدرة على أن ننظر للاختلاف بطريقة إيجابية، وأن تكون الانتماءات الدينية والثقافية متكاملة، وليست متعارضة.
وإذا أردنا أن نضع مبادئ للحوار، وأسسا للقاء وقواعده، فإننا لن نجد أمثل من تقديرات الأب كريستيان فان نسبن، الذي أشرنا إلى كتابه سابقاً، ومنها الحرية الداخلية العميقة. وتعني الحرية الروحية، التي تسمح بتجاوز المواقف الانفعالية، وشفاء الذاكرة، والتي تجعل حب الله يحرره من ضغائنه وأحقاده. ومنها معرفة للآخر ومعتقده بنظامه الديني والثقافي والإيديولوجي، والعلاقة الشخصية العميقة مع هذا الآخر، التي تسمح باكتشاف الإيمان الديني. ومعرفة السياق الثقافي والاجتماعي، والتمييز بين ما يأتي من الثقافة، وما يأتي من الدين بالمعنى الدقيق. وتجاوز الخطاب المزدوج والكلام المحفوظ المكرر. والوصول إلى تحديد لمعنى الحوار يوضح الالتباسات المفاهيمية. واختيار أطراف الحوار، فلا نفرط في محاباة فئة بعينها، أوإهمال أخرى؛ بقصد، أوبغير قصد. وقبول المساءلة دون خوف ولا عقد، مع الاهتمام بتجلية الحق، والاعتراف بالغيرية، أي باختلاف الإسلام عن المسيحية، وعن اليهودية، وغيرها من الأديان، دون اهمال المشترك الأعظم بينها.
ويؤكد حوار الأديان على عدة أمور يمكنها أن تحقق معنى أن يكون المسلمون والمسيحيون واليهود، وغيرهم من أصحاب الديانات والفلسفات الأخرى، معا في مجتمع الدولة الواحدة، وفي دائرة إقليم واحد، وفي فضاء الأسرة البشرية كلها. وفي مجتماعتنا الخاصة ما يؤشر على هذه الحقيقة ويبينها، إلا أن المؤمل إبراز إيجابياتها في عقولنا بجلاء حضورها الفعلي في واقع الناس. ويتطلب ذلك تجاوز الأحكام المسبقة والمتبادلة بين الأطراف المختلفة، التي تولد المخاوف والنبذ المتبادل. وتعني ترك الأحكام المسبقة التعميمات وإخراج الإشكاليات من سياقها. وينبغي قطع الدائرة المفرغة من الحذر المتبادل، ومن الاتهامات والاتهامات المضادة، وتأسيس قاعدة من الثقة المتبادلة، والتي لا تستبعد الصراحة لتناول كل المخاوف، والإجابة على الأسئلة المطروحة بوضوح.
وهنا فقط، يمكن بناء مجتمع يعمل لخدمة الإنسان؛ باستلهام الإيمان في تقديم مبادئ تحترم كرامة هذا الإنسان، كل الإنسان، وكل البشر. فبالحوار نستطيع أن نكتب التاريخ معا، وأن ندرس مشكلات المجتمع بصورة مشتركة، ونستشرف مستقبلا مشتركا. وإذا رأينا فينا من انتدب نفسه ليسعى بين الناس بالحسنى، داعيا لكلمة الخير، مبشراً بروح التفاهم، محفزا على التسامح، فلا نُبخِسنّ من عمله شيئا. ولكن علينا أن نقول بمثل ما قال الأخ الجابر، إن الحوار خير، فلنؤديه بكل استحقاقاته؛ نلتزم فيه الجدية، ونصعد به إلى سمو غاياته، وجلال أهدافه. ولأن أي حوار حول الأديان هوأمر إيمان بقدسية الحياة وقيمة الإخاء الإنساني، فإن جهد الناس محمود بقدره، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
(الدكتور الصادق الفقيه)
Sorry, the comment form is closed at this time.