16 مايو حوار الأديان، هل ينقذ لبنان ومصر؟
انتظر اللبنانيون أمس، كعادتهم في انتظار المجهول، دون أي حماس يذكر البيان الختامي للقمة الروحية التي دعى اليها البطريرك الماروني الجديد بشارة الراعي في بكركي، علما” أن التسريبات حول النقاط التي تناولتها القمة وأبرز “الخطوط الحمراء” التي لن تتطرق اليها سرّبت قبل القمة بساعات الى الاعلام… فجاء البيان تحت سقف التوقعات حيث اكتفت الشخصيات الروحية بمنشادة المسؤولين السياسيين بتأليف الحكومة بأسرع وقت ممكن على الأسس والقواعد الميثاقية والدستورية علما” أن المطالبة بتشكيل الحكومة تأتي متأخرة في وقت بدأت فيه أسماء التشكيلة الحكومية الجديدة برئاسة نجيب مقاتي تتّضح أكثر…
بين العقدة المسيحية والعنادية السنيّة…حكومة معطّلة
ورغم أن التشكيلة الحكومية الجديدة ما زالت تدور في فلك “الضوء الأخضر العربي” لا سيما من سوريا والسعودية و”الترحيب الاقليمي” لا سيما من ايران وتركيا فضلا” عن مواكبة مرجوّة “لموجات الثورات” القائمة وما يمكن أن تخلّفه من نتائج وبالتالي الحاجة الى تشكيل حكومة لبنانية معتدلة اضافة” الى الدوران في فلك “اللغة الخشبية” المؤلفة من مفردات المتاهة السياسية اللبنانية مثل “تدوير الزوايا” و “العقدة المسيحية” و”الهيمنة الشيعية” و”الأنانية العونية” و”العنادية السّنية” وغيرها من التعابير التي يرفعها الاعلام اللبناني لاضفاء “صبغة” طائفية احيانا” لمعوّقات التشكيلة الحكومية حين يكون السبب فيها هو الطرف “الخصم” أو لتبرير تعطيلها حين يكون السبب فيها الطرف “الحليف”… ورغم كل ذلك تعلّق “بعض” اللبنانيون، فالأغلبية منهم لم تكترث، ب”بشرى” سارة قد يأتي بها “بشارة” من صرح بكركي بالأمس…
الوحدة الوطنية والخطوط الحمراء
وجاء البيان الختامي مخيبا للتوقعات “معنويا” متناولا الثوابت الوطنية ومستثنيا الملفات السياسية الدسمة التي ينقسم عليها البنانيون أصلا… ولم يفلح البيان الختامي حتّى بتقديم أي اضافة للثوابت الوطنية كما تناولت معظم الصحف اللبنانية لعدّة أسباب… فقد صدر عن المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى بيان انتقد فيه الصيغة النهائية لبيان قمة بكركي مشيرا الى ان البيان الختامي للقمة الروحية انحرف عن المسار الذي أعدّ له سلفا “خاصة في البندين السادس والسابع من البيان والذي جاء فيه قبل طرح التعديل التأكيد على سيادة لبنان وحريته وحق الدولة في تحرير أراضيها التي تحتلها اسرائيل وفي البند السابع فيما يتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي فكان الاقتراح من قبل المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الذي اكدّ حق لبنان في تحرير ارضه حتى يشمل حق الجيش والشعب والمقاومة… اما فيما يتعلق بالبند السابع الذي ذكر بالبيان فكان الاقتراح حل النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي فتمّ زيادة التعديل خجلا من طباعته في البيان الرسمي…” تصريح المجلس الشيعي اذن يؤكد اذن ان زعماءنا الروحيون لم يتفقوا حتّى على صيغة بيان معدّ سلفا بل أنّ تعديلات تمّت على البيان لصالح جهات معينة من المشاركين في القمة وربما من “خارجها”…
في لبنان هناك ما اصطلح على تسميته ب”هاجس” الوحدة الوطنية وهو الهاجس الرئيسي الذي يشغل المواطنين وصنّاع القرار السياسي في لبنان فمنذ استشهاد الرئيس الحريري في العام 2005 بحيث أصبح الوحدة الوطنية في لبنان “الخط الأحمر” الذي لا يسمح ولن يسمح لأحد تجاوزه، وأضحت الوحدة الهدف الرئيسي الذي تجتمع من خلاله كافة الفئات والشرائح الاجتماعية والدينية والسياسية حول مائدة مشتركة… وهي الشعار الذي يرفعه الجميع دون استثناء، ولا يقبل أي طرف من الأطراف السياسية أن يشعر بأنّ هناك من يسعى بصورة مقصودة أو غير مقصودة الى هدمها، أو شق طريقها، أو زعزعة بنيتها القائمة…
ولكن الوحدة الوطنية التي يتحدثون عنها والتي تحدّث عنها بيان القمة بالأمس اقتصرت على “الثوابت الوطنية” التي لا تتعدى في لبنان كونها “شعارات” تصنع خطابات طنّانة ورنّانة ولكنها غير مؤثرة في الطبقة السياسية ولا في الشارع اللبناني… ويعود ذلك الى أنّ اللبنانيين في السنوات الخمس الأخيرة التي تلت إغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري انقسموا حول مفاهيم ومفردات هدّدت في وقت من الأوقات العيش المشترك- المشكوك بوجوده اصلا” بين اللبنانين منذ الاستقلال عام 1943- وأنذرت بحروب أهلية- مشكوك دائما باحتمال اندلاعها ثانية”- ولعلّ أبرزهذه المفردات وأخطرها على السّواء مفردات مثل “شهيد”، “مقاومة”، “عمالة”، “فتنة”، “إصلاح” و”خطوط حمراء”… فاذا كان الشعب اللبناني ومعه الطبقة السياسية الحاكمة لم تتفق على مفردات ومصطلحات الوحدة الوطنية فكيف بهم أن يكونوا قادرين في قمة روحية، لا حول ولا قوّة لها، ان يتفقوا على الثوابت الوطنية…لذلك جاءت القمة الروحية قمّة ذقون طويلة لا أكثر…
منطق اللادولة واللامواطن!
ولكن برغم الأمل الذي أتى به البطريرك بشارة الراعي للبنانيين منذ أن أصبح بطريركا للموارنة قبل بضع اسابيع وذلك في امكانية اعادة اطلاق مسيرة المصالحة المسيحية-المسيحة “الحقيقية” لا “الصورية” والحوار المسيحي-الاسلامي “البنّاء” لا “المجاملاتي” نحو تحقيق نتائج ملموسة، فانّ لبنان اليوم لا يبدو بحاجة الى مزيد من اجتماعات ومشاروات و”غداوات” دسمة تتوزع فيها الابتسامات أمام عدسات الكاميرا وتختتم بصور تذكارية بل هو بحاجة لفتاوى دينية من نوع “الوعظة” و”الارشاد” يوّجهها رجال الدين للسياسيين ليكفّوا عن تقاسم لبنان “مزارع الطوائف” و”بيوت الفساد” و”قصور التبعيّة” و”التخوين المدمّر”…
وقد اكتسى مفهوم “الوحدة الوطنية” بعدا” مقدّسا” في الخطابات السياسية في لبنان منذ العام 2005 حتى كاد يصبح هو مفردة الخلاص الوحيدة من إنجراف الوطن والمواطن إلى مسار النزاعات الطائفية والمذهبية والسياسية والدموية في كثير من الأحيان على لسان كل السياسيين… ولكن يبقى السؤال عن الأسباب التي حالت دون تحقيق وحدة وطنية حقيقة في لبنان وهو الأجدر طرحه هنا… فهل هي التدخلات الخارجية للمحاور الاقليمية في شؤون لبنان عن طريق حلفائها في الداخل؟ أم هي ضعف ولاء الشعب اللبناني ل”لبنان” الوطن النهائي، ليس”لبنان النهائي” على طريقة 14آذار؟ أم هي أيادي العملاء والخونة في الداخل، ليست “التخوين” على طريقة 8 آذار؟ أم هي كل العوامل مجتمعة” ومضافا” اليها اليوم التحديات التي فرضتها وستفرضها أكثر الثورات العربية القائمة من المحيط للخليج والتي حملت سقوط رؤساء وأنظمة وتهديد عروش ملكية خليجية؟
يرتبط مفهوم الوحدة الوطنية مع مفاهيم أخرى مثل الانتماء والولاء وغيرها من تعابير توحيد “الصف الوحدوي الوطني”… ولعل مفاهيم الانتماء والولاء بنظر البعض ليست سوى قيم محددة تؤدي في النهاية إلى تحقيق الوحدة داخل الوطن. وقد تكون مفاهيم الولاء والانتماء بالتالي من مقومات الوحدة الوطنية، ويظهر مفهوم آخر قد يكون ملاصقاً لمفهوم الوحدة الوطنية والمتمثل في مفهوم “المواطنة” والتي يمكن تعريفها كما جاء في دائرة المعارف البريطانية بأنها العلاقة بين الفرد والدولة التي تتحدد من خلال القانون، وما تتضمنه هذه العلاقة من واجبات وحقوق…علما” أنّ في لبنان ليس هناك دولة لأنه وببساطة لا يوجد “مأسسة” متينة للدولة كنظام قائم بذاته بغض النظر عن تعاقب الحكومات وسقوط التحالفات السياسية ورياح تغيير المواقف والولاء الخارجي لزعماء الأحزاب السياسية اللبنانية… فكيف سيكون هناك “مواطنة”؟… هذه الوقائع “تشرّعن” فشل الوصول الى وحدة وطنية لأن منطلقات الخطاب الوحدوي في لبنان يأتي من “ناقص وطنية” والمقصود هنا حتما” الأحزاب اللبنانية التي تعمل بأجندات لا تخدم لبنان واللبنانيين بل مصالحها ومصالح حلفائها في الخارج…
عقد دينية… وعلمانية تائهة!
وبالعودة للقمة الروحية التي أعدّت بيانها سلفا”، على شاكلة بيانات قمم جامعة الدول العربية، والتي كان من المفترض أن تخرج ببيان متفق عليه قبل أيام بين المشاركين ولكنّ حتى هذا البيان اختلف عليه أصحاب “الذقون الطويلة”… فانّ ما طرحه البطريرك بشارة الراعي في افتتاح القمة في كلمته من أن لبنان “بفضل نظامه المتوسط بين النظام الديمقراطي الذي يجمع بين الدين والدولة والنظام العلماني الذي يفصل تماما بينهما يتميز بكونه دولة مدنية تؤدي الاجلال لله تعالى وتحترم البعد الديني عند كل المواطنين وفقا لما نصت عليه المادة التاسعة من الدستور…” ولكن عن أي فصل بين الدين والدولة يتحدثون؟ ومكتوب على الطفل السني في لبنان أن لا يحلم بقصر بعبدا الرئاسي وعلى الطفل الماروني أن لا يحلم بالجلوس على كرسي رئاسة البرلمان وعلى الطفل الشيعي ان لا يحلم بمقعد رئاسة الحكومة؟ وعن أي نظام علماني يتحدثون ورجال السياسية في لبنان يفتحون أفواه رجال الدين بدلا” من أفواههم كل ما أرادو أن يشعروا رعيتهم “داخل الطائفة” أن “الطائفة” وشؤونها بخطر وعليهم بالتالي الوقوف في وجه أطماع الطوائف الأخرى “فيهم” و”بمكتسباتهم” السياسية؟ وعن اي لبنان يتحدثون وبات القاصي والداني يعرف أن لبنان محكوم ب”سياسة محاور” تتغير وتتبدّل وفقا لأهواء الجيران العرب والفرس والترك والقوى الكبرى؟… وعن اي اتفاق طائف يتحدثون ك”ثوابت دستورية” لا عودة عنها وفي الطائف تمّ تقليص صلاحية رئيس الجمهورية مّما خلق نظرية “العقدة المسيحية” وغيرها من العقد “الطائفية” اللانهائية؟!
مصر بين فلول النظام والسلفية!
وليس بعيدا “عربيا” و”جغرافيا”، فقد عهدت الحكومة المصرية أمس بإعداد مشروع قانون لتوحيد قواعد بناء دور العبادة، وهو ما يطالب به الأقباط منذ عقود، ومشروع قانون آخر يجرّم “التحريض والتمييز الديني” في محاولة منها لوأد الفتنة الطائفية التي لاحت بوادرها في المواجهات التي اندلعت يوم السبت الماضي في ضاحية امبابة في القاهرة… وتـأتي هذه الاجراءات في وقت بدأت القيادة المصرية الحالية تتعرّض للانتقادات بشأن الانفلات الأمني الذي تشهده مصر والذي ينسبه البعض للسلفيين والبعض الآخر ينسبه “لفلول النظام السابق”…
ويطالب الأقباط المصريون منذ عقود بإصدار قانون يوّحد معايير وشروط بناء دور العبادة للمسلمين وغير المسلمين حيث ان القيود المفروضة على بناء الكنائس تشكل تمييزا ضدهم، خصوصا انه ليست هناك أية قيود على بناء المساجد، فيما تسببت عمليات توسيع الكنائس أو بناء كنائس جديدة في العديد من المواجهات الطائفية في مصر خلال السنوات الأخيرة… وفي السياق ذاته، اعتبر المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي أعيد تشكيله بعد إسقاط نظام، ان الفراغ الأمني الذي تعانيه البلاد وصعود التطرف الإســـلامــي يعدّان من الأسباب الرئيـــسية للمواجهات الدامية في امـــبابة…
حوار الأديان…بدعة دينية أخرى.
أمام هذه المعضلات التي تواجه لبنان ومصر كبلدين يشهدان توترات سياسية وطائفية وامنية ولكن “لأسباب مختلفة” حتما، هل يشكل حوار الأديان حلّا ومخرجا من الفتنة الطائفية والسياسية التي تتّهدد البلدين؟… من المعلوم أنّ الحوار أساسا يقوم على مبدأ التعاون مع الغير في السعي إلى الحقائق وطلب الحلول في ما أشكل من الأمور بين المتحاورين. وإذا كانت أنواع الحوار تتوزّع عموما بين نوعين: حوار حقيقيّ وآخر تشبيهيّ، والنوع الأوّل يقتصر على المجالين العلميّ والفلسفيّ، فيما حوار الأديان يندرج ضمن الحوار التشبيهيّ الذي يختصّ “بكون العارض فيه، يتظاهر بإشراك غيره في طلب المعرفة وإنشائها وتشقيقها”… وانطلاقا من هذا التعريف يصحّ القول أنّ حوار الأديان هو عنوان “فضفاض” لا ولن يوصلنا الى مكان لأنّ الدين هو مجال الاعتقاد والتصديق بحقيقة ذلك الاعتقاد بمعزل عن الحجج والبراهين… وعليه يكون كلّ محاوِر عازما” على إخراج المحاوَر من عقيدته وإقناعه بعقيدة جديدة، أي إنّه يحاور بخلفية إقناع الغير بأمر هو خارج دائرة التصديق العقليّ… فعلى سبيل المثال كل مسلم يؤمن يقينا” أنّه صاحب الدين القيّم وغيره من المغضوب عليهم والضالين، والمسيحيّ مقتنع بأنه على الدين الحقّ وأنه على هدى ابن الله يسوع المخلص، أما اليهودي فواثق كل الوثوق أن يهوذه حكرعلى بني إسرائيل، أما غيرهم فليسوا سوى مبتدعة ضالين… وفي ظلّ هذه الوضعية كيف سيستقيم حوار الأديان وعلى أية أرضية سيكون النقاش نافعا”؟
يقول جون لوك الذي يعتبر رائدا من رواد الفكر الفلسفي الحديث “ليس من حق أي شخص، بأي حال من الأحوال، أن يحقد على شخص آخر في شأن متعه المدنية لا لسبب إلا لأنه ينتمي إلى كنيسة أخرى أو يؤمن بدين آخر…”، إذن فعوض هدر الوقت في الحديث عن الحوار بين الأديان، يجب التركيز على التسامح باعتباره فكرا وسلوكا يتجسد في إعطاء الآخر حرية التعبير عن آرائه التي قد نختلف معه فيها، وهو بهذا المعنى اعتراف صريح بحق الاختلاف وإبداء التسامح نحو الآخر والتقرّب منه والإصغاء إليه دون أحكام مسبقة، أما اشغال لبنان ومصر وغيرها من بلدان التنوّع الديني بخطابات عن “حوار الأديان” فلن يزيد الناس إلا فرقة ولن يقوّي سوى التعصب والانغلاق…
رويدا مروة
(المقالة لا تعبر عن رآي مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان)
Sorry, the comment form is closed at this time.