17 سبتمبر حوار الأديان.. أمر لا بد منه
الحوار من أرقى حالات التواصل الإنساني التي يمكن من خلالها الوصول إلى علاقة سوية بين البشر، تدفع بشيوع القيم الإنسانية، فيسود المجتمعات شيء من التفاهم والتعايش رغم الاختلافات العقائدية.
والعالم اليوم لا يعيش أزمة دينية بقدر ما يعيش أزمة أحكام مسبقة قادته إلى العنصرية والحقد والكراهية؛ مما جعل صورة مستقبل العالم – من هذه الناحية – سوداء قاتمة وغير آمنة إطلاقاً، وهذا ما نشأت عليه كثير من الأجيال التي عاشت في آفاق أيديولوجية ضيقة في بعض بقاع العالم، بل إن الأديان موجودة منذ الأزل، ولم يكن بينها صراع وإن انطلقت من الروحانيات واختلفت في الاعتقاد والشعائر، إنما الصراع هو بين أتباع هذه الأديان وقد يصل إلى درجة الإلغاء الوجودي.
ويعد الدين في الشرق عموماً، وفي العالم الإسلامي خصوصاً، أهم مكون ثقافي مؤثر في شتى مناحي الحياة اليومية لدى نسبة كبيرة من السكان، وكل الأديان تدعو إلى الإخاء والتسامح في أدبياتها ومنطلقاتها العقائدية غير أن توجيه هذه المنطلقات نحو اتجاهات ممتلئة بالعنصرية والكراهية هو ما ينتج أتباعاً كارهين لديانات غيرهم، ولا سيما حين يختلط الاختلاف الديني بالاختلاف العرقي، ليؤدي الأمر إلى عاصفة هوجاء من الكراهية، فخلال أقل من عقدين مضيا شهد العالم حوادث مريرة أريقت فيها الدماء ثمناً لهذا لاختلاف، فما حدث في يوغسلافيا السابقة يشبه ما حدث للأويغور في الصين قبل عدة أعوام وما حدث للروهينجيا في ميانمار قبل فترة وجيزة!
إن استمرار مثل هذه الكراهية يهدد فرص التعايش والسلام في المجتمعات ذات التعدد الديني والطائفي والعرقي طائفياً ودينياً، وشيوع حوار الأديان يمكن أن يثبط من حدة تلك الكراهية؛ فهو لا يعني تنازلاً عن مبدأ أو إيمان أو معتقد، إنما هو اعتراف بحق جميع الأطراف في أن تكون لديها فرص متساوية للعيش بأمن وحرية وسلام محتفظة بحقها في صيانة معتقداتها وحماية أتباعها، أما ما يستحق التنازل فهو كل فرصة لشراكة إنسانية أو حضارية، إذ لا يقوم الحوار دون التخلي عن القناعات المسبقة والآراء المتشددة.
وهنا تجدر الإشادة بمبادرة خادم الحرمين الشريفين في إنشاء “مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات” الذي يمكن خلاله أن نتقدم إلى العالم رافعين راية الحوار بالحسنى وهو ما أمر به الدين الإسلامي، لا سيما أننا تجاوزنا صعوبة البداية ولم يعد أمامنا إلا العمل الحثيث على نشر تلك القيم المتسامحة التي نزعم أننا نؤمن بها فعلاً، بل ليس الأمر محصوراً على الخارج إنما الداخل يحتاج لذلك أيضاً من خلال تطبيق هذه القيم.
ولكي يصل الإنسان لمبتغاه النبيل من هذه الناحية عليه أن يتحرر من عقد الصدام التي صنعها التاريخ، وأن نستشرف المستقبل بعقلانية من خلال البحث عن مواقف الأنسنة التي جسدتها الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة ما بعيداً عن الخطابات الأيديولوجية المتشنجة.
ولكن.. على جانب آخر يدرك كثير من العقلاء من أتباع الأديان والثقافات المتحاورة أن استحضار اللحظات الإنسانية من خلال الحوار ليس بالأمر السهل أبداً، إنما هو جهد كبير ومستمر وذو رؤية مستقبلية بعيدة الأمد، تؤسس لأجيال كثيرة في العالم، وبناء على هذا الأمر تبرز الحاجة لوجود محاورين بعقليات متوازنة يستطيعون أن يفهموا “الآخر” ويحترموه قبل أن يقدموا له خطابهم الذي يجب ألا يخل بالمحددات والأطر الدينية سواء كان ذلك بالنسبة للذات أو للآخر.
لقد مضى وقت طويل ونحن معزولون عن كثير من بقاع العالم وثقافاته، أما اليوم فلا وجود لهذه العزلة في ظل تطور وسائل وتقنيات الإعلام والاتصال، وثورة المعلوماتية التي أسهمت في تغيير بعض القناعات المسبقة لدى كثير منا، فتغير المجتمعات وتطور الثقافات سريع وإن لم نلاحظه فإننا لن نلاحظ التغير البطيء لدينا. وبذلك لن نستطيع غرس بذرة الحوار ما لم نكن قادرين على التحاور مع الذات بقدر التحاور مع الآخر، وما لم نكن أيضاً قادرين على مواجهة تأثيرات الثقافات، فلن نستطيع الاختباء والانعزال، وكل ما نحتاجه المزيد من التأمل من خلال هذه الفرصة التاريخية التي منحنا إياها الملك عبدالله عبر مركز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات.
أ. سعود البلوي
http://www.alwatan.com.sa
Sorry, the comment form is closed at this time.